Thursday 6 December 2012

فحص التفسرة (القارورة) ودلائلها المرضية عند الجرجاني وابن سينا

الهد ف من البحث

الهدف من هذه الدراسة تسليط الضوء على عالمين جليلين عاشا في القرن الحادي عشر والثاني عشر ميلادي هما :
-         ابن سينا وكتابه القانون في الطب .
-         الجرجاني وكتابه زبدة الطب .
 
   حيث أنهما القيا الضوء في كتابيهما على نواحٍ عديدة في فحص القارورة (التفسرة) ، وسوف نقوم بدراسة ألوان التفسرة بالتفصيل مع دراسة دلائلها المرضية ؛ أي أن الهدف من البحث هو معرفة رأي كل عالم في تفسير المرض حسب لون القارورة ، ومعرفة أسباب المرض دون التطرق إلى النواحــي العلاجية ، ومن ثم مقارنة ذلك مع العلم الحديث لمعرفة مستوى المعرفة العلمية في تلك الحقبة من الزمن .
 
  
تشريح الجهاز البولي

أ ـ الكلية :
   خلقت الكلية آلة تنقي الدم من المائية لفضيلة ، ولما كانت هذه المائية كثيرة جداً كان الواجب أن يخلق المنقي إياها , الجاذب لها إلى نفسه ، وهما عبارة عن عضوين زوجيين ، وفي هذه التثنية المنفعة المعروفة في خلقة الأعضاء لتكون الآفة إذا عرضت لواحد فهما قام الثاني مقامه ببعض الفعل .
وجعلت الكلية اليمنى فوق اليسرى ، لأن اليسرى زوحمت بالطحال ، واليمنى أقرب للكبد .
وجعل في باطن كل كلية تجويف تنجذب إليه المائية من الطالع الذي يأتيه ، ثم يتحلب عنها من باطنها إلى المثانة في الحالب الذي ينفصل عنها قليلاً قليلاً . فالمائية تأتي الكلية وفيها دموية باقية ، فعندما تضعف الكلية لم تستنطف فخرجت المائية مستصحبة الدموية .
 
2ـ المثانة :
     هي الجوبة الجامعة لما يتحلب من فضل المائية المستحقة للدفع والنفض ، وهي عنقها لحمية ، وهي ذات طبقتين باطنتهما في العمق ضعف الخارجة لأنها هي الملاقية للمائية الحادة ، فتلطف الخالق بحكمته في جلب المائية إليها وجذب المائية عنها فأوصل إليها الحالبين من الكليتين ، فلما وافياها فرق للمثانة طبقتين فينفذان في الطبقة الأولى الظاهرة ثاقبين ثم يغوصان في الطبقة الباطنة إلى تجويف المثانة فيصبان فيها الفضلة المائية ، حتى إذا امتلأت المثانة انطبقت الباطنة على الظاهرة انطباقاً كأنها طبقة واحدة لا ينفذ فيها لذلك لا ترجع المائية والبول إلى خلف وإلى الحالبين ، ثم خلق لها البارئ عنقاً دفاعاً للمائية إلى القضـيب معرجاً كثير التعاريج ، وحوط مبدأ ذلك العنق بعضلة كالخانقة العاصرة حتى تمنع خروج المائية عنها إلا بالإرادة المرخية لتلك العضلة ، ويتصل بكل واحد من جانبيهاعصب له عروق ساكنة ونابضة .
أما في تفسير ألوان البول ودلائلها المرضية ، فقد توسع كل من الجرجاني وابن سينا ، وسنذكر ما قال الجرجاني ونقارن مع ابن سينا في الدراسة التاريخية .
 
ففي البول الأصفر يقول :
" من ألوان البول طبقات الصفراء كالتين ثم الأترجي ثم الأشقر ثم الناري الذي يشبه صبغ الزعفران فكله يدل على الحرارة ، و قد توجبها الحركات الشديدة و الأوجاع ".
و قال : " الدم الرقيق الصفراوي سببه امتلاء من جميع البدن أو سحج حصاة أو احتباس بول عند الكلية ، وعلامته حمى لازمة و خروج شيء من شحم الكلية و هذا يدل على ورم الكلية ".
 
نلاحظ أن هذا يشبه إلى حد كبير ما ورد من الألوان عند الجرجاني ، لكن الجرجاني أوّله إلى العافية و ابتداء نضج المرض ، أما ابن سينا فقد أوّله إلى الحرارة وورم الكلية ، و هذه نقطة خلاف بينهما .
 
- أما في الأحمر فيقول ابن سينا :
" طبقات الحمرة كالأصهب و الوردي و الأحمر القانئ و الأحمر القاتم ، و كلها تدل على غلبة الدم .غير أن يكون هناك انفتاح عرق فيدل على امتلاء دموي مفرط و على قروح كلية أو سحج حصاة أو جرب مثانة " .
 و هذه الألوان مع دلائلها المرضية هو نفسه ما ذكره الجرجاني في نصه من حيث انصدع العرق أو قروح الكلية ، لكن الجرجاني توسع كثيراً في تفصيل الألوان و دلائلها ، حيث ذكر الجرجاني احتمال وجود سدة أو أورام كبدية أو استسقاء كلية أو أمراض قولنج و مثانة أو يرقان .
 
- أما في الأخضر فيقول ابن سينا :
" ثم طبقات الأخضر مثل البول الذي يضرب إلى الفستقية ثم الزنجاري ، فالفستقي يدل على البرد , و الزنجاري يدل على احتراق شديد ، و هو شديد الدلالة على العطب ".
فاللون الزنجاري و دلالته تتطابق مع ما جاء عند الجرجاني تماماً من حيث احتراق الأخلاط ، في حين ذهب الجرجاني إلى دلالات أخرى للون الأخضر للبول ، مثل الجذام مقدمة التشنج عند الصبيان .
 
أما في الأسود فيقول ابن سينا :
" أما طبقات اللون الأسود فمنه سائل على طريق الزعفرانية ، كما في اليرقانات ويدل على السوداء الدموية , والبول الأسود في الجملة يدل إما على شدة لاحتراق , أو على شدة برد وإما على دفع من الطبيعة ".
" وقد يكون البول أسود غليظ ثم صافي رقيق قليل الرسوب ، سببه رطوبة لزجة غليظة من البلغم أو من دم يجتمع في ورم دمّلي ، ومن علاماته وجود رمل يرسب يميل إلى الحمرة أو الصفرة فتدل على حصاة الكلية ".
  وهذا يشبه إلى حد كبير ما جاء به الجرجاني الذي عزى هذا اللون إلى احتراق الأخلاط ، أو إلى حصى بولية كما ذكر ابن سينا. وزاد عليه الجرجاني بأسباب أخرى كالسرسام أو ورم وخراج الكبد أو صلابة في الطحال عندما يكون البول أسود رقيق .
 
- و في اللون الأبيض يقول ابن سينا :
" فالأبيض بمعنى المشتق دليل على البرد جملة و هو نسب عن النضج،  و إن كان مع غلظ دل على البلغم , و أما الأبيض الحقيقي فلا يكون إلا مع غلظ و منه بياض دسمي يدل على ذوبان الشحوم , و أعلم أن البياض برد و بلغم " .
" و قد يكون البول أبيض فيه تفل و راسب أبيض أملس ، سببه وجود حصاة شدخها للمثانة ، و من علاماتها الحمى و احتباس البول و تقطيره ، و هذا يدل على ورم جار في المثانة .
و قد يكون الراسب مائل إلى رمادي فقد يدل على حصاة المثانة ".
و في هذا شبه لما جاء به الجرجاني ، حيث عزى هذا اللون إلى السدة أو قرحة المثانة أو ضعف الكبد في حال اللون أبيض رقيق أو غليظ ، وكذلك كثرة البلغم الذي ينذر بالفالج أو المرض البلغمي , وهذا ما أشار إليه العالمان .
 
أما في اللون الزيتي فقد قال ابن سينا :
" و الجملة فإن البول الزيتي ثلاثة أصناف ، إما أن يكون كله دسماً أو يكون أسفله دسماً أو أعلاه دسماً ، فإذا كان غيظاً و زيتي التفل فإنه يدل على حصاة المثانة ".
و هذا يختلف عن ما جاء به الجرجاني الذي عزا اللون الزيتي و الرسوب الزيتي إلى السل أو الدرق أو يبس الدماغ و اختلاط العقل .
 
 
 
الدراسة العلمية:
 
بالمقارنة مع كتاب أعراض البول السريرية للدكتور توفيق مصطفى العطار.
 
- يقول الدكتور مصطفى عن البيلة الحمراء :
" تبول الدم المتحصل في الإحليل الخلفي يشاهد في كسور العانة  التي تنتج جروح الإحليل الخلفي ، وفي التهاباته حيث يحتوي البول هنا على علقات اسطوانية ، كما تنشأ البيلة الحمراء في أمراض ضخامة البروستات وفي سرطان البروستات ".
وهذا لم يتطرق إليه الجرجاني في مخطوطته ، حيث لم يتكلم عن كسور العانة ولا البروستات وضخامتها وسرطانها .
 
- ويقول د. مصطفى أيضاً :
" تبول الدم المتحصل من المثانة يشاهد على الأكثر من الجروح و الحصيات المتحصلة في المثانة والأجسام الأجنبية تولد ذلك وفي أورام المثانة ، وفي سل المثانة أيضاً يحصل تبول الدم ويكون مترافقاً مع الصديد ".
وهذا ما ذكره تقريباً الجرجاني عند كلامه عن البيلة الدموية الحمراء ، حيث قال : أنها نتيجة سدة أو التهاب مثانة وكلية وهي تدل على قرحة الكلية والمثانة.
بينما قال الجرجاني : أنه في أمراض السل يكون البول زيتياً ورسوبه زيتياً .
 
 
- أما في البيلة السوداء يقول د. مصطفى :
" في التبول الحماضي يشاهد تبول الدم ، وذلك إما يكون بكمية كبيرة ويكون حينئذ لونه أسود ، أو يكون بكمية قليلة وهذه البيلة السوداء علامة على وجود رمل أو حصيات في الكلية أو الحويضة أو الحالب .
أي أن الدكتور مصطفى عزى هذه البيلة لأسباب كلوية بولية محضة ، بينما الجرجاني عزاها لأسباب أخرى غير كلوية بولية ، حيث عزاها لـ : احتراق الأخلاط وسوء المزاج ، أو انطفاء الحرارة الغريزية أو سدة أو ورم في الكبد أو صلابة في الطحال . وهذا كله يؤدي إلى السرسام .
فالجرجاني برأيه هذا قد يكون ابتعد عن الحقائق العلمية الحديثة .
 
أما في البيلة الصفراوية فيقول د. مصطفى :
" إن وجود العناصر الصفراوية في البول تسمى التبول الصفراوي ، والذي يحصل نتيجة عدم جريان الصفراء للأمعاء وإنهاء إفراغها في البول ، وذلك يحصل نتيجة لـ : انسداد قناة قوله دوق بسبب تشكل الحصيات الصفراوية أو تضخم العقد اللمفاوية وأورام الكلية ...
-  انسداد الطرق الصفراوية داخل الكبد نتيجة تشمع الكبد الصفراوي وسرطان الكبد .
- اليرقان الصفراوي واليرقان الانحباسي ".
 
 
وهذا ما قاربه الجرجاني بقوله " التفسرة البيضاء الرقيقة تحصل نتيجة توجه المادة الصفراوية ، ونزولها للأمعاء وهي علامة على غلبة الصفراء".
وبقوله : " عندما تكون السدة واقعة في المنفذ الذي تجري فيه الصفراء إلى الأمعاء ، هذا يؤدي لانتقال الصفراء إلى المنفذ الذي بين الكلية والكبد ، فيحمر الماء ".
وهنا لم يذكر الجرجاني انتقال الصفراء إلى المجرى الدموي ومن ثم المجاري البولية كما قال د. مصطفى ؛ وإنما قال إلى المنفذ الذي بين الكلية والكبد فيحمر الماء .
- أما البيلة الزرقاء فقد عزاها د. مصطفى إلى الخراجات المعائية والقبض المعند وتغلف الأمعاء ، بينما عزاها الجرجاني إلى الحمل عند الأنثى .
وفي البيلة الخضراء عزاها د . مصطفى إلى اليرقانات خاصة , بينما عزاها الجرجاني إلى الجذام وعند الصبيان هي مقدمة للتشنجات.
الخاتمة :
وأخيرا ً نرى علماء عرب و مسلمين أثرَوا الحضارة بنتاج علمي حقيقي قائم على التجربة و القياس ، و أتوا بشئ جديد . و هذا ما نراه عند الجرجاني الذي أبدع في مجال فحص التفسرة كما فعل من سبقه كالرازي و ابن سينا و غيرهم وكانوا مثالاً يحتذى في العلم و الأخلاق.
 

No comments:

Post a Comment